إدراة أمريكية للمفاوضات- غطاء لجرائم إسرائيل واستباق للرد الإيراني؟

المؤلف: د. سعيد الحاج10.14.2025
إدراة أمريكية للمفاوضات- غطاء لجرائم إسرائيل واستباق للرد الإيراني؟

في خضم الصراع الدائر، شهدت غزة جولة جديدة من المفاوضات المتعلقة بوقف إطلاق النار، حيث بلغت التوقعات ذروتها قبلها، لتنتهي دون التوصل إلى أي اتفاق. هذا السيناريو المتكرر للإدارة الأميركية، التي تقود جهود الوساطة وتعلن عنها، يثير تساؤلات جوهرية حول الغاية الحقيقية من هذه الجهود.

بالنظر إلى الجولة الأخيرة، يرى العديد من المراقبين أن الهدف الأساسي كان الحيلولة دون ردّ إيران على اغتيال القيادي البارز في حركة حماس، إسماعيل هنية، على أراضيها، أو على الأقل تأجيله. بيد أن التحليل المتعمق للمشهد قد يكشف عن هدف آخر، ربما يتضح جليًا مع تصاعد حدة المواجهات بين إسرائيل وحزب الله في الأيام الأخيرة.

إدارة المفاوضات

منذ انطلاق مسار التفاوض، أصرت الإدارة الأميركية على تولي دور الوسيط الرئيسي، وإدارة المشهد التفاوضي بالتعاون مع كل من قطر ومصر. على الرغم من ذلك، فإن انحيازها العلني والواضح إلى جانب الاحتلال سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا يجردها من صفة الوسيط المحايد والنزيه.

دأب المسؤولون الأميركيون على التأكيد، على مدار أشهر، على أنهم "قريبون جدًا من التوصل إلى اتفاق"، وأن المسائل العالقة تقتصر على تفاصيل ثانوية يمكن حلها بسرعة. إلا أن هذه التصريحات لم تتحقق على أرض الواقع. بل في معظم الأحيان، كان المشهد التفاوضي يشهد تراجعًا إلى ما قبل المواقف السابقة، نتيجة لتغيير الجانب "الإسرائيلي" لموقفه التفاوضي.

وعلى امتداد أشهر عديدة، أعلنت الإدارة الأميركية عن رفضها لبعض التوجهات "الإسرائيلية"، مثل استهداف المدنيين أو اجتياح رفح، أو تحفظها عليها. ومع ذلك، لم تتخذ أي إجراءات ملموسة عند تجاوز الاحتلال لهذه الخطوط الحمراء المفترضة. بل على النقيض من ذلك، كررت دعمها الثابت لـ "حليفتها إسرائيل" في مواجهة أي تهديدات تتعرض لها، مع تعزيز مستويات الدعم السياسي والعسكري والمالي المقدم لها.

بناءً على ما سبق، ليس من المبالغة القول إن إدارة واشنطن لعملية التفاوض كانت تهدف دومًا إلى إضفاء انطباع بقرب التوصل إلى اتفاق، وذلك خدمة لمصالحها الذاتية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية المقبلة، وتوفير غطاء لحكومة نتنياهو في الجرائم والمجازر التي ترتكبها، وتخفيف حدة الضغط والانتقادات الموجهة إليها. أما الجولة الأخيرة من المفاوضات، فيوحي توقيتها بأنها مرتبطة بالرد المرتقب على ما اعتبرته طهران انتهاكًا لسيادتها واختراقًا لأمنها، ومحاولة لتغيير قواعد الردع بشكل "يمسُّ بشرفها".

فقد جاءت الجولة الأخيرة في أعقاب اغتيال هنية، وما أثاره من تصورات بأن العودة إلى التفاوض ستكون صعبة ومتأخرة، وفي ظل عدم تغير موقف نتنياهو وحكومته، وثبات حماس والفصائل الفلسطينية على موقفها وشروطها، حيث طالبت الوسطاء بتطبيق خطة بايدن "بدلًا من الذهاب إلى مزيد من جولات التفاوض" التي ستتحول إلى "غطاء لمجازر إضافية".

على الرغم من كل ما تقدم، أضفى البيان الثلاثي الصادر عن الولايات المتحدة ومصر وقطر أجواء إيجابية للغاية، حين تحدث عن "اتفاق إطاري لا ينقصه سوى الانتهاء من التفاصيل الخاصة بالتنفيذ"، معربًا عن استعداد الوسطاء لطرح "مقترح نهائي لتسوية الأمور المتبقية المتعلقة بالتنفيذ"، وموحيًا بموقف أكثر جدية حين حذر من "إضاعة مزيد من الوقت" ورفض "أي أعذار من أي طرف لمزيد من التأجيل". ومن الجدير بالذكر أن مكتب نتنياهو شارك في عملية الإيهام هذه، حين تحدث عن إيفاد وفد "لوضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل وتنفيذ الاتفاق الإطاري".

وبعد يومين من المباحثات، صدر بيان ثلاثي جديد يتحدث عن "محادثات مكثفة" للتوصل إلى اتفاق، واصفًا إياها بأنها "جادة وبناءة وأجريت في أجواء إيجابية"، وعن مقترح أميركي "يقلص الفجوات بين الطرفين" ويبني على "نقاط الاتفاق التي تحققت" خلال الأسبوع السابق، وبشكل "يسمح بالتنفيذ السريع"، منبئًا عن اجتماع لاحق في القاهرة.

إن تكرار رفع سقف التوقعات عاليًا قبل جولة التفاوض، ثم الحديث اللاحق عن مقترحات واجتماعات مستقبلية، يعززان الاعتقاد بأن الهدف المنشود هنا ليس التوصل إلى اتفاق، وإنما إدارة عملية التفاوض نفسها، بحيث تبقى مستمرة لخدمة الأهداف المذكورة آنفًا، بالإضافة إلى الهدف الجديد وهو الحيلولة دون الرد الإيراني. ومما يدعم هذا الانطباع تزامنها مع جهد سياسي ودبلوماسي محموم مع طهران، قام به الأميركيون وعدد من الأطراف الأخرى، لخدمة هذا الغرض بأشكال مباشرة وغير مباشرة، معلنة وسرية.

دعم بلا حدود

بيد أن المشهد الإقليمي يفرض علينا النظر في دوافع أخرى لهذا النمط المتكرر في التفاوض، وهو توفير مساحة زمنية ولوجستية لدولة الاحتلال؛ لكي تستبق الرد الإيراني، ومعه رد حزب الله على اغتيال قائده العسكري فؤاد شُكر، بهجوم واسع على لبنان/الحزب بشكل أساسي، وربما يضاف إليه إيران. وقد استغلت إسرائيل هذه المساحة الزمنية بالفعل، وعادت قبل يومين لتوجيه ضربة لمخازن سلاح تابعة لحزب الله في شرق لبنان، لترتفع بعد ذلك وتيرة القصف بين الطرفين.

لا يمكن إغفال السلوك الأميركي فيما يتعلق بالحرب الحالية في بعدها الإقليمي، وليس فقط في سياق العدوان على غزة. ونشير هنا بشكل خاص إلى الخطوات الأميركية المكثفة والمتسارعة في الفترة التي تلت اغتيال شُكر وهنية، والتي ارتفعت فيها احتمالات توسع المواجهة إقليميًا، وهو ما يفترض أن واشنطن لا تريده، ولا تريد للحكومة "الإسرائيلية" الدفع باتجاهه.

ويتجلى ذلك في الاتصال الهاتفي بين وزيري دفاع الطرفين، والذي أكدت من خلاله الإدارة الأميركية التزامها "باتخاذ كل خطوة ممكنة للدفاع عن إسرائيل"، والحشد العسكري الكبير "لحماية إسرائيل من أي تهديد تتعرض له"، بما في ذلك حاملات الطائرات والغواصات وطائرات "إف – 22 رابتور"، وحزمة تمويل إضافية بقيمة 3.5 مليارات دولار (إضافة إلى 26 مليار دولار صادق عليها بايدن في أبريل/ نيسان الماضي)، والموافقة على مبيعات أسلحة لدولة الاحتلال بقيمة 20 مليار دولار، تشمل طائرات مقاتلة وصواريخ جو – جو وذخائر وقذائف من مختلف الأنواع. وتكمن أهمية هذه الموافقة في التوقيت والقيمة، وإن كان التسليم ليس فوريًا.

ومن المهم في هذا السياق الالتفات إلى طبيعة التصريحات الأميركية التي تعتبر أي رد على عمليات الاغتيال "عدوانًا" يستلزم المشاركة في "الدفاع" عن دولة الاحتلال، وكأن واشنطن تنفي ضمنًا أن تكون "إسرائيل" هي من نفّذ الاغتيال (وذلك في مقدمة أسباب عدم التبني الرسمي)، أو أن يكون لطهران حق الرد.

وفقًا لهذه المعطيات، لا يهم كثيرًا ما إذا كانت الإدارة الأميركية تتفق مع حكومة نتنياهو بشأن ضرورة استثمار الأجواء الحالية لتوجيه ضربة قاسية لحزب الله و/أو إيران، أو كانت لا تريد ذلك، لكنها ستدعمها في حال توسعت الحرب، إذ إن النتيجة واحدة في الحالتين. ولا يختلف الكثيرون على أن الولايات المتحدة لو أرادت وقف الحرب فعلًا لاستطاعت ذلك في غضون أيام أو ساعات، لكنها لم تتخذ بعدُ قرارًا من هذا النوع.

استباق الرد؟

ينبغي الانتباه إلى أن إدارة بايدن شاركت، إلى جانب دعم الاحتلال بكافة الوسائل، في عمليات خداع وتضليل؛ خدمة لأجندة حكومته. فقد أتى اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، في الضاحية الجنوبية في ظل سحب حاملات الطائرات الأميركية من شرق المتوسط، موحيًا بتراجع التوتر. كما أتى اغتيال فؤاد شُكر (في الضاحية كذلك، وبأسلوب لا يمكن إلا أن يكون بتنسيق مع واشنطن) بعد طمأنات وصلت للجانب اللبناني بأن "إسرائيل" ستتجنب استهداف بيروت في إطار ما أسمته "ردها على هجوم مجدل شمس".

وهناك أمثلة أخرى تؤكد أن كل إيحاء بتراجع التوتر أو طمأنات أو تأكيدات على رفض الإدارة الأميركية توسيع المواجهة في المنطقة، كان جزءًا من عملية تضليل استغلها الاحتلال. وعليه، فالأمر في السياق الحالي قد يكون جزءًا من تضليل أوسع، لا سيما أن حجم الحشد العسكري الأميركي في المنطقة (إضافة إلى مؤشرات أخرى مثل وقف الرحلات الجوية إلى تل أبيب لأشهر) يوحي بالاستعداد لحرب طويلة الأمد.

هنا، لا ينبغي التقليل من فكرة أن كل الجهود الأميركية الأخيرة لا تهدف فقط إلى تأجيل أو إلغاء رد إيران وحزب الله، ولكن قد تكون تسعى لإتاحة الفرصة لنتنياهو لمفاجأتهما بهجوم استباقي، وتحديدًا ضد حزب الله في لبنان.

فالقناعة الراسخة لدى الاحتلال، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هي أنه يجب منع فرص إطلاق عملية مماثلة من جنوب لبنان، ما يعني ضرورة توجيه ضربة قاصمة لحزب الله بغض النظر عن الوضع في غزة. والجدير بالذكر أن ذلك كان موقف غالانت في اليوم التالي مباشرة لعملية طوفان الأقصى. وكما تتفق الإدارة الأميركية مع الاحتلال على ضرورة القضاء على حركة حماس، ولكن تختلف معه في بعض التفاصيل، فهي تتفق معه كذلك في هدف القضاء على حزب الله، ولكن قد تختلف فقط في بعض التفاصيل.

ويبدو أن حزب الله بات مدركًا لهذه الحقيقة، كما يتضح من تصريحات أمينه العام حسن نصر الله، ويوحي بذلك التصاعد في عملياته، وكذلك رسائل الردع المتتالية. ولذلك، فالأجدر به ألا يقع في فخ "الطمأنات" الأميركية.

في المشهد الراهن، لا توجد نية أو قناعة لدى الاحتلال بوقف إطلاق النار في غزة، ولا ضغوط حقيقية عليه لفعل ذلك، ولا بوادر أو مؤشرات على شيء مماثل، ما يعني أن العدوان مستمر، واحتمالات التوسع الإقليمي قائمة. وفي هذه الحالات المضطربة، فإن من يبادر بالضربة الأولى يحظى بالأفضلية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة